لا شك أن لفراق الحبيب رنة حزن ، لا سيما القريب الذي يلمس الأثر ، ويتضلع من العلم ، ويلمس الأثر ، وما من شك في أن كل من على المعمورة أو تحتها قد أضحك وأبكى قدومًا وفراقا ، وليس لبشرٍ خُلد ؛ فالكل فان ، وهذه سنة الرحمان ( ولن تجد لسنة الله تبديلاً ) ، ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ، وصدق أبو العلاء المعرِّي إذ يقول :
خفف الوطء ما أظن أديم الـ ... أرض إلا من هذه الأجساد
ولئن لم تر العرب علةً كطول سلامة ، فالخاتمة حتمية القدر المقدور ( وكان أمر الله قدرًا مقدورا ). الموت كما يقال نقَّادٌ ، نافذٌ ، سارقٌ لدقِّ شخصه ، لا شيء مؤكد سواه ، ملاقٍ لا لاحق ، بطل يسعى بلا رِجْلٍ ويصول بلا كف كما يقول المتنبي ، له هيبة وترويع قطعًا ، بيد أن موت الأحبة الأقربين له رجفة على النفس التي بدهت خوف المفارقة والإلف ، والعين وإن بكت ، والقلب وإن حزن ، فإن على المؤمن أن يكون وقَّافًا عند أمر المولى سبحانه ، صابرًا على قضائه وقدره ، وهو الذي جعل الحزن والبكاء رحمة في قلوب عباده ، ومنع السخط والاعتراض على قضائه .
جدي : الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله الغفيلي المطوع ( 1330 – 1433 هـ ) سليل أسرة محمد بن علي آل محفوظ أحد البطون المنتمية إلى قبيلة العجمان اليامية ، الموصولة بيعرب بن قحطان .. غاب شخصه قبل شهر مضى من اليوم ، لكن _ بحمد الله وفضله _ قام ذكره أنصع بياضًا وأكثر إشراقًا ؛ فالناس شهود الله في أرضه ، وإجماعهم مما يوجب القبول بإذن الله ، ومن صغار المبشرات كثرة المصلين عليه والمؤبنين والمتوجعين ، فضلاً عن تداعيهم للقيم التي رأوها فيه في البصيرة كما رأوه من قبل بأبصارهم .
لقد تواتر الثناء ، وضج الدعاء ، والرحمن سبحانه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وتلك حظوظ لا يملكها كل من مات ، بل يهبها المنعم لمن يشاء من عباده .
كان _ رحمه الله _ في الثالثة والنصف من مساء الأربعاء الحزين 7 / 4 / 1433 هـ _ بعد أن أُجبر رحمةً به على شُرب ما يسد رمقه _ ينادي طالبًا تيمَّمه ؛ رغبةً في الوقوف بين يدي مولاه لصلاة العصر ، دون أن يدري أن طلبه سيكون الطلب الدنيوي الأخير المؤدي للقاء الله ! وهنا كانت الصدمة والفاجعة ؛ حيث شرع في الثالثة وخمسٍ وأربعين دقيقة في الصلاة ، وودَّع الفانية إلى الباقية وهو واضع كفه اليمنى على اليسرى في إحدى ركعات فريضة العصر ، وهذه كُبرى النعم ؛ فحين يقبض المولى روح العبد على الشهادتين فتلك نعمةٌ أولى ، وحين يتوفاه دون أن تنهكه مستعصيات الأمراض فتلك نعمةٌ أخرى ، وحين يأتيه الحق وهو عابدٌ زاهدٌ وَرِعٌ عفيفٌ فهذه الثالثة ، وحين تخترمه يد المنون وهو في أوج القربات وعمود الدين والطاعات فتلك نعمةٌ رابعة ، وفضل الله واسع ، فهل من مدكر ؟ لقد صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها ، قضى نحبه في الثالثة وخمسين دقيقة ولم يبدل تبديلا ، وتم الإعلان عنها رسميًا / طبيًا في تمام التاسعة من ذلك المساء الحزين بعد عملية مريرة ببيروقراطيتها المقيتة التي أبت إلا أن تكون زائرة ثقيلة حتى في أحلك الظروف ، أبطالها جهات ( جمعية الهلال الأحمر / الشرطة / طوارئ الإسعاف ) ، انتهت بسيارة خاصة لا تخضع لملكية أي من تلك الجهات !
حين عُزِّيتُ فيه لأول وهلة قبل أن أدلف بخطوة إلى حيث يأوي .. تعطَّلت عندي لغة القول ، وتجمَّد الأمل على الشفاه ، وتمتمت بما حضر وقتها من دعاء ، وحوقلة ، واسترجاعٍ لشريط حياة مَرَّ كغمضة عين و انتباهتها لوالدٍ اكتشفته مذ وُجدت ، ووعيته حين شَبَبْت ، ولازمته بين هذا وذاك ، مع استحضار اليقين بأن المحب في النهاية مفارقٌ كالكاره ، إلا إنه من العسير على ابنٍ خبر والده سني حياته التي تناهز الرابعة والثلاثين أن يتحمل صدمة الفراق ، أو يصبر على الفقد إلى يوم التناد ، ولكنه في النهاية _ ولله الفضل من قبل ومن بعد _ مؤمنٌ بقضاء الله ، مسَلِّم لأمره ، راضٍ بقدره ، محتسب الأجر عنده ، موقن بحتمية : ( كل نفسٍ ذائقة الموت ) ، ( إنك ميتٌ وإنهم ميتون ) ، ( كل من عليها فان . ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) , وهل أحد أشد بأساً من عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي اختل توازنه بموت الحبيب صلى الله عليه وسلم ، وأشهر سلاحه في وجه من قال: إن محمداً قد مات ؟ وغاب عنه في ساعة المواجهة تلك أن هذه سنة الله في خلقه .
إن هذه اللحظات المربكة التي عشتها ، وما أعقبها ، لم تمكِّن من تناول جلائل أعمال الجد الوالد رحمه الله _ كما يجب _ لتقديمها إلى من قصرت عن علمه ، لا بقصد التزكية ؛ وإنما بمسوغ العدل والمصداقية ، فالأفكار كالدرِّ كما يقال ، تحتاج إلى أجواء ملائمة ، عساها أن تتطرق لبعض البعض الذي سيُعدَل فيه عجزًا عن الوابل إلى الطل ؛ إذ لا يمكن تناول شخصيةٍ كجدي الوالد في لحظة ألم كهذه ، فهو عليه رحمة الله سليل دوحةٍ غَنَّاء ، وبيت كريم ، علم وكرم واحتفاء ، اجتباه ربه فوهبه السماحة ،وحسن السيرة ، والخلق . لازَم والده فنهل من علمه وعمله وخُلقه ، بزَّ أقرانه برأس العلم على يد شيخه هزاع العيسى رحمه الله رحمة واسعة ، فحفظ القرآن الكريم في مقتبل عمره ، وتلقى العلم الشرعي على يديه ، فكان خير معين له على تولي إمامة المصلين بعد والده رحمه الله ، ومن ثم تقديمه لتسنّم الخطابة التي عُرف بها وعُرفت به في جامع الرويضة بمحافظة الرس طيلة أربعين ونيفاً من السنين . عمل في مقتبل شبابه مع ثلةٍ مباركة في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى أحيل على التقاعد في العام الثامن بعد الأربع مئة والألف .كان سباقًا إلى الأخلاق الكريمة ، وصاحب معشر طيب ، ومخبر نقي ، وخلق دمث ، ونكتة حاضرة ، وصدر رحب ، وزهد في مباهج الحياة ، مدرسةً في مختلف المعارف ، يأخذ من كل شيء بطرف ، إن أردته للحكمة فهو للحكمة ، وإن أردته للتأريخ فهو للتأريخ ، وإن أردته للأنساب فهو للأنساب ، يملأ الناظر إليه إعجاباً وإكباراً ، ويمتع من يرتاد مجلسه _ الذي كان مثابةً للزوار من الأقارب والأباعد _ بشهي القول ، حفيًّا بمن يتزود منه ، الجميع يروم النهل من مخزونه العطر بأحداث وطرائف التأريخ ، وعلوم الرجال ، وسِيَر الأبطال ، فقد كان رحمه الله يتفجر خبرة وحكمة وعلما ، ويتكئ على ذاكرة قوية توجب الإصغاء لحديثه ، والاستئناس بلطافته ، وذكريات أسفاره وأشغاله ، وموسوعيته التي لا تنفك عن تداعي الآيات والأحاديث والأبيات والأمثال والحكم .
حياته رحمه الله حافلة بالكفاح ، والرغبة في تكوين الذات في زمن شحيح ، فرغم عسر الإمكانات إلا إن عصاميته أَبَت مراقبة الأيدي الممتدة والمقبوضة . نشأ فقيرًا فلم ييأس ، فقد والديه وجدتي الغالية المرحومة وبعض إخوته ، وحُرم عددًا من زينة دنياه ممثلين بأبناء وبنات لم تجاوز حياتهم معه مرحلة الفطام فصبر على قضاء ربه ، ذاق لذة النعيم فلم يطغَ أن رآه استغنى ، وَظَّف غناه في كهولته لما يخلد ذكره ؛ فأقام المساجد ، وحبس الأصول ، وسَبَّل المنافع ، وكفل الأيتام ، وسعى في حاجات الفقراء والمساكين , ودعم الجمعيات ، وشفع لمن طلب ، وأوصى لما بعد الممات , وظل إلى أن فارق الدنيا يتفقد أحوال معارفه وجيرانه و مجايليه ، وكان آخرهم زوج ابنته الذي سبقه إلى جوار ربه بأيام ، وما من عملٍ جليلٍ إلا كانت له فيه اليد الطولى إلى اللحظات الأخيرة من حياته ، حتى لكأنه يستلهم قول المصطفى عليه الصلاة والسلام : إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها . فكم من الفسائل التي غرسها وأنا العارف بها ؟ ولئن كان الإنسان يولد عارياً بالحس والمعنى ، فإنه يموت مكتسيًا بما نسجت يداه ، فالصدقة الجارية ، والعلم المنتفع به ، والعقب الصالح ذكرٌ ثانٍ للإنسان ، وحياةٌ من نوع آخر ، ويقيني أن جدي الوالد يمَدُّ بسببٍ إلى كل هذه الثلاث ، وعندئذٍ ستكون المفارقة جسدًا لا أثرا .
لقد كان في سني حياته الأخيرة _ حيث ضعف جسمه ، وقصر سمعه وبصره _ غير جازع ، فكان الصابر الشاكر، وكلما سامرناه وداعبناه ودعونا له بطول العمر على صالح العمل ردد بعفويةٍ لذيذةٍ لا يمكن أن تشنف آذاننا مجددًا : ( إلى متى ياعييلي ، أسلم عليكم ، عِشت اللي فيه البركة ، الله يرحمن برحمته ) جُمَلٌ ظلت لازمةً من لوازمه ، وفيها انعكاسٌ لإيمان وزهد ورجاء ، وكنا نثير بحضرته الكثير من الحوادث والقصص التي ألفناها منه ، فكان ينطلق بالحديث وكأنه يعيشها في فتوته ، فنتعجب ، و نغبطه على صبره واحتماله وتفاؤله في أصعب الظروف .
إن من نعم الله سبحانه عَلَي وعلى أشقائي أن وَهَبنا قربه ومخالطته ، والاستزادة منه ، والنهل من معينه الصافي المتدفق ، فأمثاله الذين يمشون على الأرض هَونًا يروم الجميع الظفر ولو بمفحص قطاة من علمهم وتربيتهم وحكمتهم . لقد غرس فينا حب الخير ، وكريم الأخلاق ، وطَيِّب السجايا ، وطلب العلم وهو رأس الخلال . زرع فينا الثقة والإقدام والنفع العام ، وَعَينا خُطبه مذ بلغنا سبعاً ، وعايشنا مفارقته المنبر الذي ألفه في جامع الرويضة العامر المبارك حين قعدت به الشيخوخة ، وأثقله الكبر ، وآثر التفرغ للصبر الاحتساب في العام السابع عشر بعد الأربع مئة والألف ، عندها تلقى الراية باليمين ، وأَمَّ المصلين _ وما زال _ والدي الأمين ، وابنه الذي بقي له من البنين ، والذي كان له كألف ولد ، في ملازمته وخدمته ، وطاعة أوامره واجتناب نواهيه ، وإيثاره على نفسه وولده ، ولا غرو في ذلك ؛ فهو خريج بيت محافظ ، يفيض بعبق الإيمان والعلم ، وأبٌ بهذه المبادرات والصفات نفخر أشد الفخر أن نكون صُلْبه ، أطال الله بقاءه لنا على طاعته .
رحمك الله رحمة واسعة ياجدي ، وأسبغ عليك شآبيب رحمته ، وجعلك ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )
إننا حين فُجعنا برحيلك هُوِّن علينا ، وأُسعدنا كثيراً بهذا الفيض من الثناء ، وتدفق المواساة والدعاء ، فالتقى الحزن مع الفرح على أمر قَدْ قُدِر ، وكيف لا نُسَرُّ من تباري الأكرمين في ذكر المحاسن والفضائل النابع من سويداء قلوبهم ؟ وما ذاك إلا ( علوٌّ في الحياة وفي الممات ) .
لقد أحسسنا بالغبطة حين تدفقت جموع المصلين عليك ، وحين رأينا التدافع وراء نعشك ، وحين اختلط المعزِّي بالمعزَّى ، فالجميع يحس بذات الحزن والألم ، ويتلقى التعازي بفقدك ، وذلك كرمٌ من أولئك ، والله تعالى أكرم في المغفرة ، وهذا حقاً ما يجعل الموت كما قيل : يفتح باب الحياة الحقيقية و يغلق باب الحسد ( ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا ) .
لقد ترك رحيلك عنا فراغاً هائلاً ، ورحلت ونحن أحوج ما نكون إليك ، وعزاؤنا الأول أنك ستبقى حياً بيننا ، لا نبكي إلا شخصك ، ولا نفقد إلا صفاء قلبك ، و عذب ابتسامتك ، والعزاء الثاني ببقاء والدي ، ووالدتي الغالية المفجوعة برحيلك ، وهي التي كانت كالظل الظليل خدمةً ورعايةً لك ولجدتي المرحومة ، والعزاء الثالث لعمتي الصابرة المحتسبة _ التي لم تندمل جراح آلامها من بَعلها السلف حتى واجهت المصاب الآخر بوالدها الخلف _ ، والعزاء الرابع لبقية أحفادك وعَقِبك الذين من حقك عليهم أن يسعدوك في قبرك ، ويَحفظون ذكرك ، ويَصِلون ما انقطع من فعلك ، ويقتفون أَثَرك في المسابقة إلى الخيرات ؛ ليكون ذلك كله صدقة جارية لك ، تؤنسك في وحدتك ، وتسعدك في وحشتك ، ولئن فزع ( المتنبي ) بآماله إلى الكذب إلا أن ألسنتنا بحمد الله لم تتعثر ؛ كتعثرها في فمه ، بل أكثرنا من الحمدلة والدعاء ، موقنين ومؤمنين بعدم قدرة المخلوقين على رد إرادة أرحم الراحمين ، فليست لأحدٍ القدرة على ردِّ ما أراد
والنفس إن رضيت بذلك أو أبت ... منقادة بأزِمّة المقدار
فلله سبحانه ما أخذ ، وله ما أبقى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، ولنا منه العزاء وجبر المصاب ، ولئن دمعت العيون ، وحزنت القلوب ، إلا إننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا: ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق